فصل: سورة الصافات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (71- 83):

{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)}
ثم ذكر سبحانه قدرته العظيمة، وإنعامه على عبيده، وجحد الكفار لنعمه، فقال: {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أنعاما} والهمزة للإنكار، والتعجيب من حالهم، والواو للعطف على مقدّر كما في نظائره، والرؤية هي القلبية أي: أو لم يعلموا بالتفكر، والاعتبار {أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم} أي: لأجلهم {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} أي: مما أبدعناه، وعملناه من غير واسطة، ولا شركة، وإسناد العمل إلى الأيدي مبالغة في الاختصاص، والتفرّد بالخلق كما يقول الواحد منا: عملته بيدي للدلالة على تفرّده بعمله، و{ما} بمعنى: الذي، وحذف العائد لطول الصلة، ويجوز أن تكون مصدرية، والأنعام جمع نعم، وهي: البقر، والغنم، والإبل، وقد سبق تحقيق الكلام فيها. ثم ذكر سبحانه المنافع المترتبة على خلق الأنعام، فقال: {فَهُمْ لَهَا مالكون} أي: ضابطون قاهرون يتصرفون بها كيف شاءوا، ولو خلقناها وحشية لنفرت عنهم، ولم يقدروا على ضبطها، ويجوز أن يكون المراد: أنها صارت في أملاكهم، ومعدودة من جملة أموالهم المنسوبة إليهم نسبة الملك.
{وذللناها لَهُمْ} أي: جعلناها لهم مسخرة لا تمتنع مما يريدون منها من منافعهم حتى الذبح، ويقودها الصبيّ، فتنقاد له، ويزجرها، فتنزجر، والفاء في قوله: {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ} لتفريع أحكام التذليل عليه أي: فمنها مركوبهم الذي يركبونه كما يقال: ناقة حلوب أي: محلوبة. قرأ الجمهور {ركوبهم} بفتح الراء. وقرأ الأعمش، والحسن، وابن السميفع بضم الراء على المصدر. وقرأ أبيّ، وعائشة {ركوبتهم}، والركوب والركوبة واحد، مثل الحلوب والحلوبة، والحمول والحمولة.
وقال أبو عبيدة: الركوبة تكون للواحدة والجماعة، والركوب لا يكون إلا للجماعة. وزعم أبو حاتم: أنه لا يجوز، فمنها ركوبهم بضم الراء؛ لأنه مصدر، والركوب ما يركب، وأجاز ذلك الفراء كما يقال: فمنها أكلهم، ومنها شربهم، ومعنى {وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ}: ما يأكلونه من لحمها، و{من} للتبعيض {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} أي: لهم في الأنعام منافع غير الركوب لها، والأكل منها، وهي ما ينتفعون به من أصوافها، وأوبارها، وأشعارها، وما يتخذونه من الأدهان من شحومها، وكذلك الحمل عليها، والحراثة بها {ومشارب} أي: ولهم فيها مشارب مما يحصل من ألبانها {أَفَلاَ يَشْكُرُونَ} الله على هذه النعم، ويوحدونه، ويخصونه بالعبادة.
ثم ذكر سبحانه جهلهم، واغترارهم، ووضعهم كفران النعم مكان شكرها، فقال: {واتخذوا مِن دُونِ الله ءالِهَةً} من الأصنام، ونحوها يعبدونها، ولا قدرة لها على شيء، ولم يحصل لهم منها فائدة، ولا عاد عليهم من عبادتها عائدة {لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ} أي: رجاء أن ينصروا من جهتهم إن نزل بهم عذاب، أو دهمهم أمر من الأمور، وجملة {لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} مستأنفة لبيان بطلان ما رجوه منها، وأملوه من نفعها، وجمعهم بالواو، والنون جمع العقلاء بناء على زعم المشركين أنهم ينفعون، ويضرون، ويعقلون {وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مٌّحْضَرُونَ} أي: والكفار جند للأصنام محضرون أي: يحضرونهم في الدنيا.
قال الحسن: يمنعون منهم، ويدفعون عنهم، وقال قتادة: أي: يغضبون لهم في الدنيا. قال الزجاج: ينتصرون للأصنام، وهي لا تستطيع نصرهم. وقيل: المعنى يعبدون الآلهة، ويقومون بها، فهم لهم بمنزلة الجند، هذه الأقوال على جعل ضمير {هم} للمشركين، وضمير {لهم} للآلهة، وقيل: {وهم} أي: الآلهة لهم أي: للمشركين {جند محضرون} معهم في النار، فلا يدفع بعضهم عن بعض. وقيل: معناه وهذه الأصنام لهؤلاء الكفار جند الله عليهم في جهنم؛ لأنهم يلعنونهم، ويتبرءون منهم. وقيل: المعنى: إن الكفار يعتقدون أن الأصنام جند لهم يحضرون يوم القيامة لإعانتهم.
ثم سلى سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: {فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} هذا القول هو ما يفيده قوله: {واتخذوا مِن دُونِ الله ءالِهَةً} فإنهم لابد أن يقولوا: هؤلاء آلهتنا، وإنها شركاء لله في المعبودية، ونحو ذلك. وهو نهي للرسول صلى الله عليه وسلم عن التأثر بذلك. وقيل: إنه نهي لهم عن الأسباب التي تحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن النهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن التأثر لما يصدر منهم هو من باب: «لا أرينك ها هنا» فإنه يراد به نهي من خاطبه عن الحضور لديه، لا نهي نفسه عن الرؤية، وهذا بعيد، والأوّل أولى، والكلام من باب التسلية كما ذكرنا، ويجوز أن يكون المراد بالقول المذكور هو: قولهم إنه ساحر، وشاعر، ومجنون. وجملة {إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} لتعليل ما تقدّم من النهي، فإن علمه سبحانه بما يظهرون، ويضمرون مستلزم المجازاة لهم بذلك. وأن جميع ما صدر منهم لا يعزب عنه سواء كان خافياً، أو بادياً سرًّا، أو جهراً مظهراً، أو مضمراً. وتقديم السرّ على الجهر للمبالغة في شمول علمه لجميع المعلومات.
وجملة {أَوَ لَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خلقناه مِن نُّطْفَةٍ} مستأنفة مسوقة لبيان إقامة الحجة على من أنكر البعث، وللتعجيب من جهله، فإن مشاهدة خلقهم في أنفسهم على هذه الصفة من البداية إلى النهاية مستلزمة للاعتراف بقدرة القادر الحكيم على ما هو دون ذلك من بعث الأجسام، وردّها كما كانت، والإنسان المذكور في الآية المراد به: جنس الإنسان كما في قوله: {أَوْ لاَ يَذْكُرُ إلإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} [مريم: 67]، ولا وجه لتخصيصه بإنسان معين كما قيل: إنه عبد الله بن أبيّ، وأنه قيل له ذلك لما أنكر البعث.
وقال الحسن: هو: أمية بن خلف.
وقال سعيد بن جبير: هو: العاص بن وائل السهمي.
وقال قتادة، ومجاهد: هو: أبيّ بن خلف الجمحي، فإن أحد هؤلاء، وإن كان سبباً للنزول، فمعنى الآية: خطاب الإنسان من حيث هو، لا إنسان معين، ويدخل من كان سبباً للنزول تحت جنس الإنسان دخولاً أوّلياً، والنطفة هي: اليسير من الماء، وقد تقدّم تحقيق معناها {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} هذه الجملة معطوفة على الجملة المنفية قبلها داخلة معها في حيز الإنكار المفهوم من الاستفهام، و{إذا} هي: الفجائية أي: ألم يرَ الإنسان أنا خلقناه من أضعف الأشياء، ففجأ خصومتنا في أمر قد قامت فيه عليه حجج الله، وبراهينه، والخصيم: الشديد الخصومة الكثير الجدال، ومعنى المبين: المظهر لما يقوله الموضح له بقوّة عارضته، وطلاقة لسانه، وهكذا جملة: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِىَ خَلْقَهُ} معطوفة على الجملة المنفية داخلة في حيز الإنكار المفهوم من الاستفهام، فهي تكميل للتعجيب من حال الإنسان، وبيان جهله بالحقائق، وإهماله في نفسه فضلاً عن التفكر في سائر مخلوقات الله، ويجوز أن تكون جملة {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ} معطوفة على خلقنا، وهذه معطوفة عليها أي: أورد في شأننا قصة غريبة كالمثل: وهي إنكاره أحياناً للعظام، ونسي خلقه، أي: خلقنا إياه، وهذه الجملة معطوفة على ضرب، أو في محلّ نصب على الحال بتقدير قد.
وجملة {قَالَ مَن يُحييِ العظام وَهِىَ رَمِيمٌ} استئناف جواباً عن سؤال مقدّر كأنه قيل: ما هذا المثل الذي ضربه؟ فقيل: قال: من يحيي العظام، وهي رميم، وهذا الاستفهام للإنكار؛ لأنه قاس قدرة الله على قدرة العبد، فأنكر أن الله يحيي العظام البالية حيث لم يكن ذلك في مقدور البشر، يقال: رمّ العظم يرمّ رماً إذا بلي، فهو رميم، ورمام، وإنما قال: {رميم}، ولم يقل: رميمة مع كونه خبراً للمؤنث؛ لأنه اسم لما بلي من العظام غير صفة كالرمة والرفات. وقيل: لكونه معدولاً عن فاعلة، وكل معدول عن وجهه يكون مصروفاً عن إعرابه كما في قوله: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} [مريم: 28]؛ لأنه مصروف عن باغية، كذا قال البغوي، والقرطبي، وقال بالأوّل صاحب الكشاف. والأولى أن يقال: إنه فعيل بمعنى: فاعل، أو مفعول، وهو يستوي فيه المذكر، والمؤنث كما قيل في جريح، وصبور.
ثم أجاب سبحانه عن الضارب لهذا المثل، فقال: {قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي: ابتدأها، وخلقها أوّل مرة من غير شيء، ومن قدر على النشأة الأولى قدر على النشأة الثانية {وَهُوَ بِكُلّ شَئ عَلِيمٌ} لا يخفى عليه خافية، ولا يخرج عن علمه خارج كائناً ما كان.
وقد استدلّ أبو حنيفة، وبعض أصحاب الشافعي بهذه الآية على أن العظام مما تحله الحياة.
وقال الشافعي: لا تحله الحياة، وأن المراد بقوله: {مَن يُحىِ العظام} من يحيي أصحاب العظام على تقدير مضاف محذوف، وردّ بأن هذا التقدير خلاف الظاهر {الذى جَعَلَ لَكُم مّنَ الشجر الأخضر نَاراً} هذا رجوع منه سبحانه إلى تقرير ما تقدّم من دفع استبعادهم، فنبه سبحانه على وحدانيته، ودل على قدرته على إحياء الموات بما يشاهدونه من إخراج النار المحرقة من العود النديّ الرطب، وذلك أن الشجر المعروف بالمرخ، والشجر المعروف بالعفار إذا قطع منهما عودان، وضرب أحدهما على الآخر انقدحت منهما النار، وهما أخضران.
وقيل: المرخ هو: الذكر، والعفار هو: الأنثى، ويسمى الأوّل الزند، والثاني الزندة، وقال: {الأخضر}، ولم يقل: الخضراء اعتباراً باللفظ. وقرئ: {الخضر} اعتباراً بالمعنى، وقد تقرّر أنه يجوز تذكير اسم الجنس، وتأنيثه كما في قوله: {نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} [القمر: 20] وقوله: {نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] فبنو تميم، ونجد يذكَّرونه، وأهل الحجاز يؤنثونه إلا نادراً، والموصول بدل من الموصول الأوّل {فَإِذَا أَنتُم مّنْه تُوقِدُونَ} أي: تقدحون منه النار، وتوقدونها من ذلك الشجر الأخضر.
ثم ذكر سبحانه ما هو أعظم خلقاً من الإنسان، فقال: {أَوَ لَيْسَ الذي خَلَقَ السموات والأرض بقادر على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم} والهمزة للإنكار، والواو للعطف على مقدّر كنظائره، ومعنى الآية: أن من قدر على خلق السماوات، والأرض- وهما في غاية العظم، وكبر الأجزاء- يقدر على إعادة خلق البشر الذي هو صغير الشكل ضعيف القوّة، كما قال سبحانه: {لَخَلْقُ السموات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} [غافر: 57] قرأ الجمهور {بقادر} بصيغة اسم الفاعل. وقرأ الجحدري، وابن أبي إسحاق، والأعرج، وسلام بن المنذر، وأبو يعقوب الحضرمي {يقدر} بصيغة الفعل المضارع. ثم أجاب سبحانه عما أفاده الاستفهام من الإنكار التقريريّ بقوله: {بلى وَهُوَ الخلاق العليم} أي: بلى هو قادر على ذلك، وهو المبالغ في الخلق، والعلم على أكمل وجه، وأتمه. وقرأ الحسن، والجحدري، ومالك بن دينار {وهو الخالق}.
ثم ذكر سبحانه ما يدل على كمال قدرته، وتيسر المبدأ، والإعادة عليه، فقال: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} أي: إنما شأنه سبحانه إذا تعلقت إرادته بشيء من الأشياء أن يقول له: احدث، فيحدث من غير توقف على شيء آخر أصلاً، وقد تقدّم تفسير هذا في سورة النحل، وفي البقرة. قرأ الجمهور {فيكون} بالرفع على الاستئناف. وقرأ الكسائي بالنصب عطفاً على {يقول}. ثم نزّه سبحانه نفسه عن أن يوصف بغير القدرة، فقال: {فسبحان الذي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَئ}، والملكوت في كلام العرب لفظ مبالغة في الملك كالجبروت، والرحموت كأنه قال: فسبحان الذي بيده مالكية الأشياء الكلية. قال قتادة: ملكوت كلّ شيء: مفاتح كلّ شيء. قرأ الجمهور {ملكوت} وقرأ الأعمش، وطلحة بن مصرف، وإبراهيم التيمي {ملكة} بزنة شجرة، وقرئ: {مملكة} بزنة مفعلة، وقرئ: {ملك}، والملكوت أبلغ من الجميع.
وقرأ الجمهور {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} بالفوقية على الخطاب مبنياً للمفعول. وقرأ السلمي، وزر بن حبيش، وأصحاب ابن مسعود بالتحتية على الغيبة مبنياً للمفعول أيضاً. وقرأ زيد بن عليّ على البناء للفاعل أي: ترجعون إليه لا إلى غيره وذلك في الدار الآخرة بعد البعث.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم في معجمه، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في البعث والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: جاء العاص بن وائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظم حائل، ففته بيده، فقال: يا محمد أيحيي الله هذا بعد ما أرم؟ قال: «نعم يبعث الله هذا، ثم يميتك، ثم يحييك، ثم يدخلك نار جهنم» فنزلت الآيات من آخر ياس {أَوَ لَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خلقناه مِن نُّطْفَةٍ} إلى آخر السورة.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عنه قال: جاء عبد الله بن أبيّ في يده عظم حائل إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر مثل ما تقدّم قال ابن كثير: وهذا منكر؛ لأن السورة مكية، وعبد الله بن أبيّ إنما كان بالمدينة.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: جاء أبيّ بن خلف الجمحي، وذكر نحو ما تقدّم.
وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً قال: نزلت في أبي جهل، وذكر نحو ما تقدّم.

.سورة الصافات:

هي مائة واثنتان وثمانون آية.
وهي مكية.
قال القرطبي: في قول الجميع.
وأخرج ابن الضريس وابن النحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: نزلت بمكة.
وأخرج النسائي والبيهقي في سننه عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالتخفيف ويؤمنا بالصافات.
قال ابن كثير: تفرد به النسائي.
وأخرج ابن أبي داود في فضائل القرآن وابن النجار في تاريخه من طريق نهشل بن سعد الورداني عن الضحاك عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ يس والصافات يوم الجمعة ثم سأل الله أعطاه سؤله».
وأخرج أبو نعيم في الدلائل والسلفي في الطيوريات عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله ملوك حضرموت عند قدومهم عليه أن يقرأ عليهم شيئا مما أنزل الله قرأ: {الصافات صفا} حتى بلغ: {ورب المشارق}». الحديث.

.تفسير الآيات (1- 19):

{وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آَيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19)}
قوله: {والصافات صَفَّا} قرأ أبو عمرو، وحمزة، وقيل: حمزة فقط، بإدغام التاء من الصافات في صاد صفاً، وإدغام التاء من الزاجرات في زاي زجراً، وإدغام التاء من التاليات في ذال ذكراً، وهذه القراءة قد أنكرها أحمد بن حنبل لما سمعها. قال النحاس: وهي بعيدة في العربية من ثلاثة جهات: الجهة الأولى أن التاء ليست من مخرج الصاد، ولا من مخرج الزاي، ولا من مخرج الدال، ولا من أخواتهن. الجهة الثانية أن التاء في كلمة، وما بعدها في كلمة أخرى. الثالثة أنك إذا أدغمت جمعت بين ساكنين من كلمتين، وإنما يجوز الجمع بين ساكنين في مثل هذا إذا كانا في كلمة واحدة.
وقال الواحدي: إدغام التاء في الصاد حسن لمقاربة الحرفين، ألا ترى أنهما من طرف اللسان. وقرأ الباقون بإظهار جميع ذلك، والواو للقسم، والمقسم به: الملائكة: الصافات، والزاجرات، والتاليات. والمراد ب {الصافات}: التي تصفّ في السماء من الملائكة كصفوف الخلق في الدنيا، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة. وقيل: إنها تصفّ أجنحتها في الهواء واقفة فيه حتى يأمرها الله بما يريد.
وقال الحسن: صفاً كصفوفهم عند ربهم في صلاتهم. وقيل: المراد بالصافات هنا: الطير كما في قوله: {أَوَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطير فَوْقَهُمْ صافات} [الملك: 19] والأوّل أولى، والصفّ: ترتيب الجمع على خطّ كالصفّ في الصلاة. وقيل: الصافات جماعة الناس المؤمنين إذا قاموا صفاً في الصلاة، أو في الجهاد، ذكره القشيري. والمراد ب {الزاجرات} الفاعلات للزجر من الملائكة، إما لأنها تزجر السحاب كما قال السدّي، وإما لأنها تزجر عن المعاصي بالمواعظ، والنصائح.
وقال قتادة: المراد بالزاجرات: الزواجر من القرآن، وهي كل ما ينهى، ويزجر عن القبيح، والأوّل أولى. وانتصاب {صفا} و{زجراً} على المصدرية لتأكيد ما قبلهما. وقيل: المراد بالزاجرات: العلماء؛ لأنهم هم الذين يزجرون أهل المعاصي. والزجر في الأصل: الدفع بقوّة، وهو هنا قوّة التصويت، ومنه قول الشاعر:
زجر أبي عروة السباع إذا ** أشفق أن يختلطن بالغنم

ومنه زجرت الإبل، والغنم: إذا أفزعتها بصوتك، والمراد ب {التاليات ذِكْراً} الملائكة التي تتلو القرآن كما قال ابن مسعود، وابن عباس، والحسن، ومجاهد، وابن جبير، والسدّي. وقيل: المراد: جبريل وحده، فذكر بلفظ الجمع تعظيماً له مع أنه لا يخلو من أتباع له من الملائكة.
وقال قتادة: المراد كل من تلا ذكر الله، وكتبه. وقيل: المراد: آيات القرآن، ووصفها بالتلاوة، وإن كانت متلوّة كما في قوله: {إِنَّ هذا القرءان يَقُصُّ على بَنِى إسراءيل} [النمل: 76]. وقيل: لأن بعضها يتلو بعضاً، ويتبعه. وذكر الماوردي: أن التاليات هم: الأنبياء يتلون الذكر على أممهم، وانتصاب {ذكراً} على أنه مفعول به، ويجوز أن يكون مصدراً كما قبله من قوله: {صفاً}، و{زجراً}.
قيل: وهذه الفاء في قوله: {فالزاجرات}، {فالتاليات} إما لترتب الصفات أنفسها في الوجود، أو لترتب موصوفاتها في الفضل، وفي الكلّ نظر.
وقوله: {إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ} جواب القسم، أي: أقسم الله بهذه الأقسام إنه واحد ليس له شريك. وأجاز الكسائي فتح {إن} الواقعة في جواب القسم {رَبّ السموات والأرض} يجوز أن يكون خبراً ثانياً، وأن يكون بدلاً من {لواحد}، وأن يكون خبر مبتدأ محذوف. قال ابن الأنباري: الوقف على {لواحد} وقف حسن، ثم يبتدئ {ربّ السماوات والأرض} على معنى: هو ربّ السماوات، والأرض. قال النحاس: ويجوز أن يكون بدلاً من {لواحد}. والمعنى في الآية: أن وجود هذه المخلوقات على هذا الشكل البديع من أوضح الدلائل على وجود الصانع، وقدرته، وأنه ربّ ذلك كله، أي: خالقه، ومالكه. والمراد بما بينهما: ما بين السماوات، والأرض من المخلوقات. والمراد ب {المشارق} مشارق الشمس. قيل: إن الله سبحانه خلق للشمس كل يوم مشرقاً، ومغرباً بعدد أيام السنة، تطلع كل يوم من واحد منها، وتغرب من واحد، كذا قال ابن الأنباري، وابن عبد البرّ. وأما قوله في سورة الرحمن: {رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين} [الرحمن: 17] فالمراد بالمشرقين: أقصى مطلع تطلع منه الشمس في الأيام الطوال، وأقصر يوم في الأيام القصار، وكذلك في المغربين. وأما ذكر المشرق، والمغرب بالإفراد، فالمراد به: الجهة التي تشرق منها الشمس، والجهة التي تغرب منها، ولعله قد تقدّم لنا في هذا كلام أوسع من هذا.
{إِنَّا زَيَّنَّا السماء الدنيا بِزِينَةٍ الكواكب} المراد بالسماء الدنيا: التي تلي الأرض، من الدنوّ، وهو: القرب، فهي أقرب السموات إلى الأرض. قرأ الجمهور {بزينة الكواكب} بإضافة زينة إلى الكواكب. والمعنى: زيناها بتزيين الكواكب، أي: بحسنها. وقرأ مسروق، والأعمش، والنخعي، وحمزة بتنوين {زينة}، وخفض {الكواكب} على أنها بدل من الزينة: على أن المراد بالزينة الاسم لا المصدر. والتقدير بعد طرح المبدل منه: إنا زينا السماء بالكواكب، فإن الكواكب في أنفسها زينة عظيمة؛ فإنها في أعين الناظرين لها كالجواهر المتلألئة. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر عنه بتنوين {زينة}، ونصب {الكواكب} على أن الزينة مصدر، وفاعله محذوف. والتقدير: بأن الله زين الكواكب بكونها مضيئة حسنة في أنفسها، أو تكون الكواكب منصوبة بإضمار أعني، أو بدلاً من السماء بدل اشتمال، وانتصاب {حفظاً} على المصدرية بإضمار فعل، أي: حفظناها حفظاً، أو على أنه مفعول لأجله، أي: زيناها بالكواكب للحفظ، أو بالعطف على محل زينة كأنه قال: إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء. {وَحِفْظاً مّن كُلّ شيطان مَّارِدٍ} أي: متمرّد خارج عن الطاعة يرمى بالكواكب، كقوله: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رُجُوماً للشياطين}
[الملك: 5].
وجملة {لاَّ يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ الأعلى} مستأنفة لبيان حالهم بعد حفظ السماء منهم.
وقال أبو حاتم: أي: لئلا يسمعوا، ثم حذف {إن} فرفع الفعل، وكذا قال الكلبي، والملأ الأعلى: أهل السماء الدنيا فما فوقها، وسمى الكلّ منهم أعلى بإضافته إلى ملإ الأرض، والضمير في {يسمعون} إلى الشياطين. وقيل: إن جملة {لا يسمعون} صفة لكل شيطان، وقيل: جواباً عن سؤال مقدّر كأنه قيل: فما كان حالهم بعد حفظ السماء عنهم؟ فقال: {لاَ يَسْمَعُونَ إِلا الملإ الأعلى} قرأ الجمهور {يسمعون} بسكون السين، وتخفيف الميم. وقرأ حمزة، والكسائي، وعاصم في رواية حفص عنه بتشديد الميم، والسين، والأصل يتسمعون، فأدغم التاء في السين، فالقراءة الأولى تدلّ على انتفاء سماعهم دون استماعهم، والقراءة الثانية تدلّ على انتفائهما، وفي معنى القراءة الأولى قوله تعالى: {إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء: 212] قال مجاهد: كانوا يتسمعون، ولكن لا يسمعون. واختار أبو عبيدة القراءة الثانية، قال: لأن العرب لا تكاد تقول: سمعت إليه، وتقول: تسمعت إليه {وَيُقْذَفُونَ مِن كُلّ جَانِبٍ * دُحُوراً} أي: يرمون من كلّ جانب من جوانب السماء بالشهب إذا أرادوا الصعود لاستراق السمع، وانتصاب {دحوراً} على أنه مفعول لأجله. والدحور: الطرد، تقول: دحرته دحراً، ودحوراً: طردته. قرأ الجمهور {دحوراً} بضم الدال، وقرأ عليّ، والسلمي، ويعقوب الحضرمي، وابن أبي عبلة بفتحها.
وروي عن أبي عمرو: أنه قرأ: {يقذفون} مبنياً للفاعل، وهي قراءة غير مطابقة لما هو المراد من النظم القرآني، وقيل: إن انتصاب {دحوراً} على الحال، أي: مدحورين، وقيل: هو جمع داحر نحو قاعد، وقعود، فيكون حالاً أيضاً. وقيل: إنه مصدر لمقدّر، أي: يدحرون دحوراً.
وقال الفراء: إن المعنى: يقذفون بما يدحرهم، أي: بدحور، ثم حذفت الباء، فانتصب بنزع الخافض.
واختلف هل كان هذا الرمي لهم بالشهب قبل المبعث، أو بعده؟ فقال بالأوّل طائفة. وبالآخر آخرون. وقالت طائفة بالجمع بين القولين: إن الشياطين لم تكن ترمى قبل المبعث رمياً يقطعها عن السمع، ولكن كانت ترمى وقتاً، ولا ترمى وقتاً آخر، وترمى من جانب، ولا ترمى من جانب آخر، ثم بعد المبعث رميت في كلّ وقت، ومن كلّ جانب حتى صارت لا تقدر على استراق شيء من السمع إلا من اختطف الخطفة، فأتبعه شهاب ثاقب، ومعنى {وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ}: ولهم عذاب دائم لا ينقطع، والمراد به: العذاب في الآخرة غير العذاب الذي لهم في الدنيا من الرمي بالشهب.
وقال مقاتل: يعني: دائماً إلى النفخة الأولى، والأوّل أولى.
وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن الواصب: الدائم.
وقال السدّي، وأبو صالح، والكلبي: هو الموجع الذي يصل وجعه إلى القلب، مأخوذ من الوصب، وهو: المرض، وقيل: هو الشديد، والاستثناء في قوله: {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة} هو من قوله: {لاَ يَسْمَعُونَ}، أو من قوله: {وَيَقْذِفُونَ}.
وقيل: الاستثناء راجع إلى غير الوحي لقوله: {إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء: 212] بل يخطف الواحد منهم خطفة مما يتفاوض فيه الملائكة، ويدور بينهم مما سيكون في العالم قبل أن يعلمه أهل الأرض. والخطف: الاختلاس مسارقة، وأخذ الشيء بسرعة. قرأ الجمهور {خطف} بفتح الخاء، وكسر الطاء مخففة، وقرأ قتادة، والحسن بكسرهما، وتشديد الطاء، وهي لغة تميم بن مرّ، وبكر بن وائل. وقرأ عيسى بن عمر بفتح الخاء، وكسر الطاء مشددة. وقرأ ابن عباس بكسرهما مع تخفيف الطاء، وقيل: إن الاستثناء منقطع {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} أي: لحقه، وتبعه شهاب ثاقب: نجم مضيء، فيحرقه، وربما لا يحرقه فيلقي إلى إخوانه ما خطفه، وليست الشهب التي يرجم بها هي من الكواكب الثوابت بل من غير الثوابت، وأصل الثقوب: الإضاءة. قال الكسائي: ثقبت النار تثقب ثقابة، وثقوباً: إذا اتقدت، وهذه الآية هي كقوله: {إِلاَّ مَنِ استرق السمع فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ} [الحجر: 18].
{فاستفتهم أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَا} أي: اسأل الكفار المنكرين للبعث أهم أشدّ خلقاً، وأقوى أجساماً، وأعظم أعضاء، أم من خلقنا من السماوات، والأرض، والملائكة؟ قال الزجاج: المعنى: فاسألهم سؤال تقرير أهم أشدّ خلقاً، أي: أحكم صنعة أم من خلقنا قبلهم من الأمم السالفة؟ يريد أنهم ليسوا بأحكم خلقاً من غيرهم من الأمم، وقد أهلكناهم بالتكذيب فما الذي يؤمنهم من العذاب؟ ثم ذكر خلق الإنسان، فقال: {إِنَّا خلقناهم مّن طِينٍ لاَّزِبٍ} أي: إنا خلقناهم في ضمن خلق أبيهم آدم من طين لازب، أي: لاصق، يقال: لزب يلزب لزوباً: إذا لصق.
وقال قتادة، وابن زيد: اللازب: اللازق.
وقال عكرمة: اللازب: اللزج.
وقال سعيد بن جبير: اللازب: الجيد الذي يلصق باليد.
وقال مجاهد: هو اللازم، والعرب تقول: طين لازب، ولازم تبدل الباء من الميم، واللازم: الثابت كما يقال: صار الشيء ضربة لازب، ومنه قول النابغة:
ولا تحسبون الخير لا شرّ بعده ** ولا تحسبون الشرّ ضربة لازب

وحكى الفراء عن العرب: طين لاتب بمعنى: لازم، واللاتب الثابت. قال الأصمعي: واللاتب اللاصق مثل اللازب. والمعنى في الآية: أن هؤلاء كيف يستبعدون المعاد، وهم مخلقون من هذا الخلق الضعيف، ولم ينكره من هو مخلوق خلقاً أقوى منهم، وأعظم، وأكمل، وأتمّ. وقيل: اللازب هو: المنتن قاله مجاهد، والضحاك. قرأ الجمهور {أم من خلقنا} بتشديد الميم، وهي: أم المتصلة، وقرأ الأعمش بالتخفيف، وهو استفهام ثان على قراءته. قيل: وقد قرئ لازم، ولاتب، ولا أدري من قرأ بذلك.
ثم أضرب سبحانه عن الكلام السابق، فقال: {بَلْ عَجِبْتَ} يا محمد من قدرة الله سبحانه: {وَيَسْخُرُونَ} منك بسبب تعجبك، أو ويسخرون منك بما تقوله من إثبات المعاد.
قرأ الجمهور بفتح التاء من {عجبت} على الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. وقرأ حمزة، والكسائي بضمها. ورويت هذه القراءة عن عليّ، وابن مسعود، وابن عباس، واختارها أبو عبيد، والفراء. قال الفراء: قرأها الناس بنصب التاء، ورفعها، والرفع أحبّ إليّ؛ لأنها عن عليّ، وعبد الله، وابن عباس. قال: والعجب أن أسند إلى الله، فليس معناه من الله كمعناه من العباد. قال الهروي: وقال بعض الأئمة: معنى قوله: {بَلْ عَجِبْتَ} بل جازيتهم على عجبهم؛ لأن الله أخبر عنهم في غير موضع بالتعجب من الخلق كما قال: {وَعَجِبُواْ أَن جَاءهُم مٌّنذِرٌ مّنْهُمْ} [ص: 4] وقالوا: {إِنَّ هذا لَشَئ عُجَابٌ} [ص: 5] {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إلى رَجُلٍ مّنْهُمْ} [يونس: 2] وقال عليّ بن سليمان: معنى القراءتين واحد، والتقدير: قل: يا محمد: بل عجبت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مخاطب بالقرآن. قال النحاس: وهذا قول حسن، وإضمار القول كثير. وقيل: إن معنى الإخبار من الله سبحانه عن نفسه بالعجب أنه ظهر من أمره، وسخطه على من كفر به ما يقوم مقام العجب من المخلوقين. قال الهروي: ويقال: معنى عجب ربكم، أي: رضي ربكم وأثاب، فسماه عجباً، وليس بعجب في الحقيقة، فيكون معنى {عجبت} هنا: عظم فعلهم عندي.
وحكى النقاش: أن معنى {بل عجبت}: بل أنكرت. قال الحسن بن الفضل: التعجب من الله: إنكار الشيء وتعظيمه، وهو لغة العرب، وقيل: معناه: أنه بلغ في كمال قدرته، وكثرة مخلوقاته إلى حيث عجب منها، وهؤلاء لجهلهم يسخرون منها، والواو في {وَيَسْخُرُونَ} للحال، أي: بل عجبت، والحال أنهم يسخرون، ويجوز أن تكون للاستئناف.
{وَإِذَا ذُكّرُواْ لاَ يَذْكُرُونَ} أي: وإذا وعظوا بموعظة من مواعظ الله، أو مواعظ رسوله لا يذكرون، أي: لا يتعظون بها، ولا ينتفعون بما فيها. قال سعيد بن المسيب، أي: إذا ذكر لهم ما حلّ بالمكذبين ممن كان قبلهم أعرضوا عنه ولم يتدبروا {وَإِذَا رَأَوْاْ ءايَةً} أي: معجزة من معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم {يَسْتَسْخِرُونَ} أي: يبالغون في السخرية. قال قتادة: يسخرون، ويقولون: إنها سخرية، يقال: سخر، واستسخر بمعنى: مثل قرّ واستقرّ، وعجب واستعجب. والأوّل أولى، لأن زيادة البناء تدلّ على زيادة المعنى. وقيل: معنى {يستسخرون}: يستدعون السخرى من غيرهم.
وقال مجاهد: يستهزئون {وَقَالُواْ إِن هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} أي: ما هذا الذي تأتينا به إلا سحر واضح ظاهر {أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما} الاستفهام للإنكار، أي: أنبعث إذا متنا؟، فالعامل في {إذا} هو ما دلّ عليه {أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ}، وهو أنبعث، لأنفس مبعوثون، لتوسط ما يمنع من عمله فيه، وهذا الإنكار للبعث منهم هو السبب الذي لأجله كذبوا الرسل، وما نزل عليهم، واستهزءوا بما جاءوا به من المعجزات، وقد تقدّم تفسير معنى هذه الآية في مواضع.
{أَوَ ءابَاؤُنَا الأولون} هو مبتدأ، وخبره محذوف، أي: أو آباؤنا الأوّلون مبعوثون، وقيل: معطوف على محل إن واسمها، وقيل: على الضمير في {مبعوثون} لوقوع الفصل بينهما، والهمزة للإنكار داخلة على حرف العطف، ولهذا قرأ الجمهور بفتح الواو، وقرأ ابن عامر، وقالون بسكونها على أن، {أو} هي العاطفة، وليست الهمزة للاستفهام. ثم أمر الله سبحانه رسوله بأن يجيب عنهم تبكيتاً لهم، فقال: {قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ داخرون} أي: نعم تبعثون، وأنتم صاغرون ذليلون. قال الواحدي: والدخور أشدّ الصغار، وجملة {وأنتم داخرون} في محل نصب على الحال. ثم ذكر سبحانه: أن بعثهم يقع بزجرة واحدة، فقال: {فَإِنَّمَا هي زَجْرَةٌ واحدة} الضمير للقصة، أو البعثة المفهومة مما قبلها، أي: إنما قصة البعث، أو البعثة زجرة واحدة، أي: صيحة واحدة من إسرافيل بنفخه في الصور عند البعث: {فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ} أي يبصرون ما يفعل الله بهم من العذاب.
وقال الحسن: هي: النفخة الثانية، وسميت الصيحة زجرة؛ لأن المقصود منها الزجر، وقيل: معنى {ينظرون}: ينتظرون ما يفعل بهم. والأوّل أولى.
وقد أخرج عبد الرزاق، والفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم والطبراني، والحاكم وصححه من طرق عن ابن مسعود: {والصافات صَفَّا} قال: الملائكة {فالزجرات زَجْراً} قال: الملائكة {فالتاليات ذِكْراً} قال: الملائكة.
وأخرج عبد بن حميد، عن مجاهد، وعكرمة مثله.
وأخرج ابن المنذر، وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس مثله.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه أنه كان يقرأ: {لاَّ يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ الأعلى} مخففة، وقال: إنهم كانوا يتسمعون، ولكن لا يسمعون.
وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في قوله: {عَذابٌ وَاصِبٌ} قال: دائم.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة عنه أيضاً: إذا رمي الشهاب لم يخط من رمي به، وتلا {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ}.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عنه أيضاً {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} قال: لا يقتلون بالشهاب، ولا يموتون، ولكنها تحرق وتخبل وتجرح في غير قتل.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: {مِن طين لاَّزِبٍ} قال: ملتصق.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر عنه أيضاً {مّن طِينٍ لاَّزِبٍ} قال: اللزج الجيد.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: اللازب، والحمأ، والطين واحد: كان أوّله تراباً، ثم صار حمأ منتناً، ثم صار طيناً لازباً، فخلق الله منه آدم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: اللازب: الذي يلصق بعضه إلى بعض.
وأخرج الفريابي، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن ابن مسعود: أنه كان يقرأ: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ} بالرفع للتاء من عجبت.